مقدّمة كتابي المقبل قريباً: إعسار صحافي

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد

لا أتنقّل، هذه الأيام، بالشكل المعتاد، فلا أسوق سيارة، وأكون مُضطراً للجلوس إلى جانب السائق، أو على المقعد الخلفي، تحسّباً من أن يوقفنا حاجز أمني عارض، ليطالبني بإبراز بطاقة هويتي، وحين تتوقّف سيارة شرطة أمام البيت، أضع يدي على قلبي خِشية من أنّها جاءت خصيصاً لجلبي إلى السجن.

لستُ مجرماً قَتَل أو سَرَق، أو فاسداً إستغلّ موقعه العام لسبب مال أو نفوذ، أو باحثاً عن كرسيّ يحتلّه كأيّ عابر سبيل، فدخل في معركة تصفية حسابات شخصية…

أنا مجرّد صحافي…

وذلك هو مُختصر القصّة،

قصّة عُمر كامل في المهنة القاسية، القاهرة، المقهورة!

لم أعمل في أيّة لحظة من حياتي بغير الصحافة، وهي التي أتت بخيرها وشرّها عليّ، ولكنّني أستدرك فأقول: صحيح أنّني اشتغلت لفترة سائقاً برتبة مدير علاقات عامة مع شركة يابانية، ولم أكن بلغت العشرين من عمري، ولكنّ الصحيح أكثر أنّها كانت وظيفة تتعلّق بمصائب الصحافة!

ورحلتي مع الكلمة تكاد تحتفل بالعيد الخمسيني، وربّما أكثر بقليل، مع أنّني في الثالثة والستين، وهذا لأنّني بدأت وجبتي المهنية طفلاً صغيراً، في مطبخ أبي، في بيته،  وهو الذي مات ولم يعمل في مهنة غيرها، ولا أعرف صحافياً آخر عانى ما عانى مثله، وهو الذي منعني منها، وفرح بي لها، وهو الذي زرع فيّ دون أن يعرف حبّها، وهو الذي مات حزيناً على نفسه، وعليّ أيضاً، لأنّه وصل إلى طريق مسدود، وكان يعرف سلفاً أنّ إبنه سيصل إلى تلك النهاية المحتومة.

لا أتحدث عن دراما هنا، ولكنّ هذا ما حصل، فالوعد الذي حمله والدي كان يطلع وينزل، والوعد الذي ورثته منه كان ينزل ويطلع، وليس هناك من موعد جديد للصعود، فأنواع النفوذ والجهل والتسلّط أقوى منّا، ونحن مجرّد عابثين نُحاول في حياتنا مُلكاً لمهنة يُفترض أنّها سُلطة رابعة، ولكنّنا نموت في آخر الأمر، ولا نُعذرا.

وكُنت دائماً في جلساتي مع والدي أصرّ عليه أن يكتب عن تجربته الثرية في الصحافة، ولكنّه لم يفعل، وكذلك فعلت مع الاساتذة الكبار، ولكنّهم لم يفعلوا، ربّما لأنّهم كانوا يعتبرون أنّ من يكتب مذكراته يعترف ضمناً بأنّ عطاءه انتهى، وأنّه ذاهب إلى الموت، ومع ذلك فجميعهم رحلوا، ليظلّ تاريخنا الصحافي ناقصاً، وأعرف أنّ العشرات من الاكاديميين يُعانون من عدم وجود الرواية التاريخية للصحافة الأردنية على لسان من عاشوها فعلاً.

وكما فعلت مع أساتذتي الراحلين، كان هناك الكثيرون ممّن ظلّوا يُلحّون عليّ لكتابة ذلك الجزء من التاريخ الصحافي الذي عشته وعايشته، خصوصاً وأنّ كتابي :”صحافة، ولكن” نفد من التداول منذ عشرين سنة (منشور في آخر هذا الكتاب)، وهو أصلاً لم يتناول سوى جزء يسير من تاريخنا، ولكنّه على ما يبدو أشبع بعض فضول الزملاء والمعنيين، لما تضمّنه من وثائق ومعلومات لم تكن معروفة قبل صدوره.

وصحيح أنّني عملت في أغلب الصحف الأردنية، وبمواقع متقدّمة محرراً وكاتباً (الرأي، الدستور، العرب اليوم، المسائية، البلاد، صوت المرأة، السفير، السبيل، وغيرها الكثير) وصحيح أنّني أصدرت مجلّتين: ”صوت وصورة، واللويبدة”، ومواقع إلكترونية، وصحيح أنّني عملت في “البيان” الدبوية، في مقتبل العمر،  رئيساً لقسم المندوبين، وأسست مكتب “القُدس العربي” في عمّان، وكتبت في غير صحيفة عربية وأجنبية، ونشرت عدة كتب.

ذلك صحيح، وهو موضع فخر شخصي، ولكنّ تجربة “آخر خبر” هي التي كانت الأهمّ في حياتي، ولهذا فسوف تستغرق مساحة لا بأس بها من هذا الكتاب، تماماً كما كانت صحيفة ”الشعب“ هي الأهمّ في حياة والدي، واستغرقت مساحة كبيرة من ”صحافة ولكن“.

تمّ إيقافي غير مرّة في نضارة مركز أمني ما، وتمّ سجني في دائرة مهمّة بعض أسبوع، وتمّ استجوابي في دوائر أخرى أكثر أهمية برفق عدّة مرات، ووقفت أمام القضاة عشرات المرات في قضايا تتعلق بمهنتي، وأطلقت رصاصات على بيتي، وهُدّدتُ مرات ومرات، ولكنّني والحمد لله لم أضعف في لحظة، وحافظت على كرامتي، فإيماني كان قاطعاً: سأكون أنا، وسأظلّ إبن أبي، مُخلصاً لمبادئه المهنية، والأخلاقية، وإستقلاليته، ومن بعد ذلك فليأت الطوفان!

أخذتني مهنتي إلى جغرافيا لم أكن في وضع لأحلم بها، وسمحت لي بلقاء شخصيات أردنية وعربية ودولية، ليست في متناول الكثيرين، وسحرتني إلى درجة أنّني رفضت عروضاً سخيّة لتركها في سبيل غيرها، ولهذا فسأظلّ ممتناً لها في مطلق الأحوال، بعيداً عن شرورها، والآهات التي تجعلنا نطلقها، أحياناً، بيننا وبين أنفسنا!

هو كتاب سردي، ولكنّه لن يعتمد السردّ التاريخي الرتيب، فأنا روائي أيضاً، يستفيد من حرفته تقنيتها، من حيث التقديم والتأخير، ولكنّني لن أغفل في لحظة عن قول الحقيقة، ومن لديه قول غير قولي فليصحّح، ومن لديه رواية أخرى فليقلها، وفي كلّ الأحوال فلستُ سوى واحد من كثيرين من أبناء المهنة التي كوت بنارها جلدهم، فعلّمت على أجسادهم، وفي قلوبهم، ندوباً وأوشاماً أوجعتهم قليلا،ً، ولكنّهم يفخرون بها.

باسم ابراهيم سكجها

إغلاق